فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فبلغ الأجل المراد والمعين لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة.
فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبق لها سابقة سلطان، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض، ولكنها أمة سلمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية، لتكون أقرب إلى قبول الحق، وأظهر هذا الدين بواسطة رجل منها، لم يكن من أهل العلم، ولا من أهل الدولة، ولا من ذرية ملوك، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة، ليكون ظهور هذا الحق الصريح، والعلم الصحيح، من مثله آية على أن ذلك وحي من الله نفح به عباده.
ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم، حتى الأمة التي ظهر بينها، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها، وكانت أصوله مبنية على الفطرة بمعنى ألا تكون ناظرة إلا إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم، غير مأسور للعوائد ولا للمذاهب، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] قال الشيخ أبو علي ابن سينا: الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعه وهو عاقل، لم يسمع رأيا، ولم يعتقد مذهبا، ولم يعاشر أمة، لكنه شاهد المحسوسات، ثم يعرض على ذهنه الأشياء شيئا فشيئا فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه، وليس كل ما توجبه الفطرة بصادق، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمى عقلا، قبل أن يعترضه الوهم.
ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر، وارتاضت نفوسهم بها، إذا كانت تفيدهم كمالا، ولا تفضي إلى فساد، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاص. فبهذا الأصل: أصل الفطرة كان الإسلام دينا صالحا لجميع الأمم في جميع الأعصر.
ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمة له ومهيئة جميع الناس لقبوله.
المظهر الأول: إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقاد لا يشوبه تردد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات، ثم بكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم، وعلى الاعتراف باتصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارا، ثم لتصير تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلق بها ثم بحمل جميع الناس على تطهير عقائدهم حتى يتحد مبدأ التخلق فيهم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله} [آل عمران: 64].
وكان إصلاح الاعتقاد أهم ما ابتدأ به الإسلام، وأكثر ما تعرض له؛ وذلك لأن إصلاح الفكرة هو مبدأ كل إصلاح؛ ولأنه لا يرجى صلاح لقوم تلطخت عقولهم بالعقائد الضالة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة، خوفا من لا شيء، وطمعا في غير شيء. وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأن المرء إنسان بروحه لا بجسمه.
ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي: عزة النفس، وأصالة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل.
وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثارا لا يشبهه فيد دين آخر، بل أنك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلا قليلا.
المظهر الثاني: جمعه بين إصلاح النفوس، بالتزكية، وبين إصلاح نظام الحياة، بالتشريع، في حين كان معظم الأديأن لا يتطرق إلى نظام الحياة بشيء، وبعضها وإن تطرق إليه إلا أنه لم يوفه حقه، بل كان معظم اهتمامها منصرفا إلى المواعظ والعبادات، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
والمظهر الثالث: اختصاصه بإقامة الحجة، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات، وتعليل أحكامه، بالترغيب وبالترهيب، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلا بالحجة والدليل، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلا بالجدل والخطابة، ومنهم المترهب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله، ومنهم المكابر المعاند، الذي لا يقلعه عن شغبه إلا القوارع والزواجر.
المظهر الرابع: أنه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط، وقي القرآن {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وفي الحديث الصحيح: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي فذكر وكان الرسول يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وقد ذكر الله تعالى الرسل كلهم فذكر أنه أرسلهم إلى أقوامهم.
والاختلاف في كون نوح رسولا إلى جميع أهل الأرض، إنما هو مبني: على أنه بعد الطوفان انحصر أهل الأرض في أتباع نوح، عند القائلين بعموم الطوفان سائر الأرض، ألا ترى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: 59] وأياما كان احتمال كون سكان الأرض في عصر نوح هم من ضمهم وطن نوح؛ فإن عموم دعوته حاصل غير مقصود.
المظهر الرابع: الدوام ولم يدع رسول من الرسل أن شريعته دائمة، بل ما من رسول، ولا كتاب، إلا تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده.
المظهر الخامس: الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بين ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] لتكون الأحكام صالحة لكل زمان.
المظهر السادس: أن المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها، وفي أصول الأخلاق أن التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها خواطر الشرور؛ لأن الشرور، إذا تسربت إلى النفوس، تعذر أو عسر اقتلاعها منها، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين: طريقة مباشرة، وطريقة سد الذرائع الموصلة إلى الفساد، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس».
المظهر السابع: الرأفه بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موع المصلحة، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة لينة، وفي القرآن {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وفي الحديث الصحيح: «بعثت بالحنفية السمحة ولن يشاد هذا الدين أحدا إلا غلبه». وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدة، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء؛ لأنها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة، ولم تكن بالتي يناسبها ما قدر مصير البشر إليه من رقة الطباع وارتقاء الأفهام.
المظهر الثامن: امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام، وذلك من خصائصه؛ إذ لا معنى للتشريع إلا تأسيس قانون للأمة، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة. وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة، واتحاد الأمة في العمل والنظام.
المظهر التاسع: صراحة أصول الدين، بحيث يتكرر في القرآن ما تستقرى منه قواطع الشريعة، حتى تكون الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ}:

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} الآية.
أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علمٍ منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا.
قاله ابن عمر وغيره.
وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، قاله الأخفش.
قال محمد بن جعفر بن الزبير: المراد بهذه الآية النصارى، وهو توبيخ لنصارى نَجْرَانَ.
وقال الربيع بن أنس: المراد بها اليهود.
ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعمّ اليهود والنصارى؛ أي {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} يعني في نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم {إلاّ مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} يعني بيان صفته ونبوَّته في كتبهم.
وقيل: أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرّقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد، وأن عيسى عبد الله ورسوله. اهـ.

.قال الماوردي:

وفيما اختلفوا فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: في أديانهم بعد العلم بصحتها.
والثاني: في عيسى وما قالوه فيه من غلو وإسراف.
والثالث: في دين الإسلام. اهـ.

.قال الفخر:

الغرض من الآية بيان أن الله تعالى أوضح الدلائل، وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير، فقوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} فيه وجوه:
الأول: المراد بهم اليهود، واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبرًا، وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغيًا بينهم، وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني: المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد الله ورسوله والثالث: المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله وأنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: نحن أحق بالنبوّة من قريش، لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} في هذا الدين {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ} يعني بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى، فلما بعث الله تعالى محمدًا، كفروا حسدًا منهم، هكذا قال مقاتل.
ويقال: إنهم كانوا مسلمين، وكانا يسمّون بذلك، وكان عيسى عليه السلام سمى أصحابه مسلمين، فحسدتهم اليهود لمشاركتهم في الاسم فغيَّروا ذلك الاسم، وسُمُّوا يهودًا، وأما النصارى فغيرهم عن ذلك الاسم بولس، وسماهم نصارى، فذلك قوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ} يعني غَيّروا الاسم حسدًا منهم. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم، لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح، وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم. اهـ.
فصل:
قال الفخر:
في انتصاب قوله: {بَغِيًّا} وجهان الأول: قول الأخفش أنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك: جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني: قول الزجاج أنه انتصب على المصدر من طريق المعنى، فإن قوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} قائم مقام قوله: وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل {بَغِيًّا} مصدرًا، والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل، وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل. اهـ.

.قال البيضاوي:

{بَغْيًا بَيْنَهُمْ} حسدًا بينهم وطلبًا للرئاسة، لا لشبهة وخفاء في الأمر. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} قيل: المراد بهم اليهود واختلفوا فيما عهد إليهم موسى عليه الصلاة والسلام، أخرج ابن جرير عن الربيع قال: «إن موسى عليه الصلاة والسلام لما حضره الموت دعا سبعين حبرًا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهراقوا بينهم الدماء ووقع الشر طلبًا لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلط الله تعالى عليهم جبابرتهم»، وقيل: النصارى واختلفوا في التوحيد، وقيل: المراد بالموصول اليهود والنصارى، وبالكتاب الجنس واختلفوا في التوحيد، وقيل: في نبوته صلى الله عليه وسلم، وقيل: في الإيمان بالأنبياء، والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح.
وقوله تعالى: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه، أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي، وقوله سبحانه: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} زيادة تشنيع، والاسم المنصوب مفعول له لما دل عليه ما و{إِلا} من ثبوت الاختلاف بعد مجيء العلم كما تقول ما ضربت إلا ابني تأديبًا، فلا دلالة للكلام على حصر الباعث، وادعاه بعضهم أي إن الباعث لهم على الاختلاف هو البغي والحسد لا الشبهة وخفاء الأمر، ولعل انفهام ذلك من المقام أو من الكلام بناءًا على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أي ما اختلفوا في وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي كما تقول: ما ضرب إلا زيد عمرًا أي ما ضرب أحدًا إلا زيد عمرًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
عطف {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} على قوله: {أن الدين عِنْدَ الله الإسلام} للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقيهم لدين الإسلام، ومن سوء فهمهم في دينهم.
وجيء في هذا الأخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر: لبيان سبب اختلافهم، وكأن اختلافهم أمر معلوم للسامع. وهذا أسلوب عجيب في الأخبار عن حالهم إخبارا يتضمن بيان سببه، وإبطال ما يتراءى من الأسباب غير ذلك، مع إظهار المقابلة بين حال الدين الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف، وبين سلامة الإسلام من ذلك.
وذلك أن قوله: {أن الدين عِنْدَ الله الإسلام} قد آذن بأن غيره من الأديان لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم، والدوام، قبل التغيير، بله ما طرأ عليها من التغيير، وسوء التأويل، إلى يوم مجيء الإسلام، ليعلم السامعون أن ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنه وقع فيه التغيير والاختلاف، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم، مع التنبيه على أن سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم، ومن جملة ما بدلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه تنبيه على أن الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف، كما تقدم في المظهر التاسع، ومن ثم ذم علماؤنا التأويلات البعيدة، والتي لم يدع إليها داع صريح.